Explore
Also Available in:

هل تستطيع القردة أن تكتب المزمور الثالث والعشرين?

بقلم:
قام بالترجمة: reasonofhope.com) Jack Kazanjyan)

Images Wikipedia.org7325Huxley-Wilberforce
توماس هُكسلي (على اليسار، والأسقف صموئيل ويلبِرفورس، نجما المناظرة الشهيرة التي تناولت موضوع التطور [التي دارت] في اجتماع أوكسفورد للجمعيّة البريطانية بتاريخ ٣٠ حزيران ١٨٦٠)

بتاريخ ٣٠ حزيران [يونيو] من عام ١٨٦٠، وقعت حادثة، ترسَّخت في أذهان الكثير من الناس، على أنها نقطة تحول بما يتعلَّق بقبول الجماهير لنظرية التطور في مواجهتها مع المسيحية. تلك الواقِعَة كانت المناظرة التي دارت بين الإغنوستك [اللاأدري] ”توماس هُكسلي“، الذي عُرف فيما بعد بلقب ”بولدوغ داروين [أي المُدافع الشَرِس عن داروين]“، والأسقف الأنجليكاني من جامعة أوكسفورد، صموئيل ويلبِرفورس، ابن السياسي الشهير ويليام ويلبِرفورس، [المعروف] بنضاله ضدّ العبودية. التي عُقِدَت في اجتماع للجمعية البريطانيّة، في أوكسفورد، والتي كان الأسقف ويلبِرفورس بدوره نائباً لرئيسها، والتي أثارها نَشر كتاب أصل الأنواع لتشارلز داروين قبل سبعة أشهر، في تشرين الثاني [نوفمبر] من عام ١٨٥٩.

لقد كان ويلبِرفورس مناظراً ذَا خبرة ومهارة. فضلاً عن كونه لاهوتياً، وبالتالي فإنَّه كان مؤهَّلا بطبيعته [للقيام بهذا الدور]. وقد تحصَّل على الأولية في الرياضيات بين دفعته من خريجي أوكسفورد، كما كان عضواً في الجمعية الملكية، وتميَّز بشكل استثنائي في الجمع بين كونه أستاذاً لعلم اللاهوت، وأستاذاً للرياضيات في جامعة أوكسفورد. وكان أيضاً ضليعًا بنظرية داروين، حيث أنه وقبل المناظرة بوقت قصير، كان قد قدَّم مراجعةً ”لأصل الأنواع“ من ١٩,٠٠٠ كلمة، والتي نشرت في مجلة ”Quarterly Review“، في تموز من عام ١٨٦٠. وكان تعليق داروين بعد قراءة المراجعة التالي:

’إنَّه ذكاء غير مألوف، [فالمراجعة] تنتقي بمهارة أغلب الأجزاء المُخمَّنة، وتُظهر بشكل جيّد جميع الصعوبات‘1

ابتدأ ويلبِرفورس المناظرة، وبعد تقديمه لعدة نقاط علمية، أتمها بالإشارة الى جدليّة بيلي، التي تنصّ [بشكل مختصر] على أن وجود ساعة يشير ضمناً إلى وُجود صانع ساعات، وبالتالي فإن التصميم [الأكثر تعقيداً] الموجود في الطبيعة يشير إلى وجود مُصَمِّم.

بدأ هُكسلي بعدها، وبحسب ما ذُكر، أنه طرح جدليته المعروفة بأنَّ ستة من القردة أو السعادين الأبدية [ذات عمر غير محدود]2 تطبع على ستة من الآلات الكاتبة الأبدية، ومزوّدة بكميات غير محدودة من الورق والحبر، إن أُعطيت وقتاً كافياً، فإنها ستكون قادرة على انتاج مزموراً [من المزامير]، أو قصيدة [أربع عشرية] من قصائد شكسبير، أو حتى كتاباً كاملاً، وذلك بمحض الصدفة البحتة، من خلال الضرب العشوائي على مفاتيح [الآلة الكاتبة].

أثناء العرض الذي قام به هُكسلي، تخيل أنه وجد المزمور الثالث والعشرين بين العدد الهائل من الكلمات المبهمة في الأوراق التي أنتجتها القردة التي تخيّلها على آلاتهم الكاتبة. وتابع مُقدِّماً وجهة نظره، إن الحركة الجزيئيّة، وبنفس الطريقة، إن أعطيت من المواد والوقت مايكفي، ستكون قادرة على انتاج شخص الأسقف ويلبِرفورس، وذلك بمحض الصدفة البحتة ودون أي تدخل لأي مُصَمِّم أو خالِق.

يبدو، من خلال الروايات المختلفة لما حدث (معظم هذه الروايات مأخوذة من رسائل كتبها مؤيدوا داروين، حيث أن الجمعية البريطانية لم تقم بنشر أي تقرير مكتوب حول هذه المناظرة)، أن الأسقف البارز لم يمتلك اجابة على المنطق المُقدَّم. وهو أمر مثير للدهشة إلى حد كبير نظراً لريادته في مجال الرياضيات. لذلك فلنقم بدراسة بعض الردود على جدلية هُكسلي ـ علماً أنها جدلية لا تزال تُقَدَّم من قِبَل أنصار نظرية التطور من حين لآخر حتى في زمننا المعاصر – بأن الصُدفَة تقدم تفسيراً أفضل من التصميم فيما يتعلق بالأصل [أصل الحياة].

صُدفَة أم تَصميم

دعونا نتخيل آلة كاتبة خاصَّة، ”سهلة الاستخدام“ للقردة، تحتوي ٥٠ مفتاحاً، تشتمل على ٢٦ حرفاً استهلالياً ، و١٠ أرقام، ومفتاح للمسافة الفاصلة،. و١٣ مفتاحاً لعلامات الترقيم، الخ. ومن باب التبسيط، سنتجاهل الأحرف بالشكل الصغير(lower-case) ونعتمد الطباعة بالأحرف الاستهلالية (capital letters)، وسنتجاوز السنوات الكبيسة أيضاً. [أُبقي على النموذج اللاتيني للمزمور٢٣ والآلة الكاتبة تسهيلاُ، كون اللغة العربية تتطلب وجود أدوات التحريك.]

كم هو الزمن الذي يحتاجه المُستخدِم، في المتوسط، لكتابة المزمور الثالث والعشرين، من خلال الضرب العشوائي على مفاتيح الآلة الكاتبة؟ فلنعاين أولا الآية الأولى من المزمور، التي تنصّ على مايلي: ‘THE LORD IS MY SHEPHERD, I SHALL NOT WANT.’ [النص العربي للمزمور: الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ.]

وفقاً لقاعدة حساب الإحتمالات (بأبسط صيغها)3 فإن احتمال طباعة الأحرف الثلاثة الأولى “THE” بطريقة صحيحة هي ١ من ٥٠×٥٠×٥٠ أي ما يعادل ١٢٥٠٠٠. وبالتالي فالوقت المستغرق لإجراء ١٢٥٠٠٠ ضربة مفتاح، وبمعدل ضربة واحدة بالثانية، هو ٣٤,٧٢ ساعة.

أما احتمال إصابة المفاتيح الثمانية بالتسلسل الصحيح، وبشكل عشوائي (تتضمن سبعة أحرف ومفتاح المسافة الفاصلة) لكلمتي (THE LORD) هي ١ من ٥٠×٥٠×٥٠ … تكرر ثمان مرات. (أي ٥٠ ٨). هذا يكافئ فرصة واحدة من ٣٩,٠٦٣ مليارضربة وبمعدل ضربة واحدة في الثانية سيكون الزمن المستغرق ١٢٣٨٦٦٣ ثانية. أي ما يعادل ٧ سنوات.

أما متوسط الزمن المستغرق لطباعة الآية الأولى كاملةً من المزمور الثالث والعشرين بطريقة صحيحة، والذي يحتاج ٤٢ ضربة مفتاح صحيحة متضمنة: الأحرف، علامات الترقيم، والمسافات الفاصلة، إنما تحتاج إلى ٥٠ ٤٢ ونقسمها إلى ٣١٥٣٦٠٠٠ (عدد الثواني في السنة)، سنحصل على نتيجة ٧,٢×١٠ ٦٣ سنة.

والزمن المستغرق، بالمتوسط، لطباعة كامل المزمور الثالث والعشرين، الذي يحتاج إلى ٦٠٣ ضربة مفتاح صحيحة متضمنة: الأحرف، علامات الترقيم، أرقام الآيات، والمسافات الفاصلة سيكون ٥٠ ٦٠٣ ونقسمها إلى ٣١٥٣٦٠٠٠ ما ينتج لدينا ٩,٥٥٢×١٠ ١٠١٦ سنة.4 فإن افترضنا أن الرمز ’b‘ يشير إلى مليار أي (١٠)٩ فيمكننا كتابة النتيجة بالشكل التالي: واحد bbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbb bbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbbb سنة.

من باب المقارنة، إن تقديرات أنصار نظرية التطور للعمر المفترض للأرض يبلغ ٤,٦ مليار سنة (فقط)، والعمر المفترض للكون يبلغ ١٥ مليار سنة (فقط).

احتمالية تشكل جزيء الحمض النووي منقوص الإكسجين (DNA) عن طريق الصدفة

عندما نُطبِّق نظرية الإحتمالات على ترتًّب جزيء الحمض النووي، سنواجه وضعاه مشابهاً للإقتباس التالي:

’عندما نأتي لدراسة أبسط كائن معروف وقادر على الوجود بشكل مستقل، يصبح الوضع أعظم. فإن سلسلة الحمض النووي لكروموزوم بكتيريا E. Coli (الإشريكيّة القولونيّة)، وهي الكائن المُفضَّل لدى علماء الأحياء البيولوجية، يتألَّف التركيب اللولبي المزدوج للحمض النووي من ٣ إلى ٤ مليون زوجٍ قاعديّ. كلها مرتَّبة بشكل ”هادف“، بمعنى أنه يؤدي إلى زيادة الأنزيمات الجزيئيّة التي تناسب المُستَقلِبات [النواتج الأيضيّة] والمنتجات المستخدمة من الخلية. يمثّل هذا الترتيب الفريد احتمالاً واحداً من بين ١٠ ٢,٠٠٠,٠٠٠ مليون ترتيباً بديلاً لأزواج القواعد! ونحن مضطرون إلى الإستنتاج بأن أصل الحياة الأولى كان حدثاً فريداً، ولا يُمكن مناقشته من ناحية الإحتمالية.‘5

لاحظ أن هذا يتناول فقط الترتيب الصحيح للقواعد [النيتروجينية] التي تم تشكيلها مُسبقاً. وقد أخذ هارولد ج. موروايتز، أستاذ علم الفيزياء الحيوية بجامعة ييل (Yale)، بالحُسبان الطاقة التساهمية [الطاقة اللازمة لترابط الجزئيات الكيميائية من خلال الألكترونات] اللازمة لتشكيل جزيء حمضٍ نوويٍّ مثل هذا. فتوصَّل إلى الرقم [الذي يمثّل] احتمالية التشكُّل العفوي لبكتيريا الإشريكيّة القولونية (E. Coli) في تاريخ الكون، فكان أقل من فرصة واحدة من بين ١٠ مرفوعة للقوة ١٠٠ مليار (و يمكن كتابة قيمة هذه الإحتمالية بالشكل التالي (١٠)١٠٠,٠٠٠,٠٠٠,٠٠٠-).6

إن معظم الناس سيقفون عاجزين عن إدراك رقم بالغ الضخامة مثل هذا، فقام الراحل السير فرِيْد هويل، الذي كان أستاذاً لعلم الفلك في جامعة كامبريدج ولم يَكُن مسيحيّاً، بإيضاح هذه النقطة على النحو التالي: ’الآن تخيَّل (١٠)٥٠ شخصاً أعمى [هذا يعادل ١٠٠,٠٠٠ مليار مليار مليار مليار مليار شخص ـ متراصِّين كتفاً إلى كتف، وهذا العدد من الناس كافٍ لملء مجموعتنا الشمسية] كل منهم يحمل مكعب روبيك [المكعب السحري] غير منتظم، حاول الآن تخيُّل احتمالية وصول جميع الأشخاص وفي وقت واحد إلى ترتيب كل المكعبات بطريقة صحيحة. عندئذٍ يكون لديك إحتمال تكوّن واحد من البوليمرات الحيوية الكثيرة التي تعتمد عليها الحياة من خلال الخلط العشوائي (الصدفة). فالفكرة القائلة بأن: ليس فقط البوليمرات الحيوية إنما أيضاً برنامج التشغيل للخلية يمكن أن تنتج عن طريق الصدفة من الحساء البدائي [الخليط من المواد الكيميائية القادرة على انتاج حياة] هنا على الأرض، إنما هي مجرّد هراء فاضح.7 (تم التشديد على هذه النقطة)

إحدى المقارنات الأخرى التي اعتمدها البروفيسور هُويل هي: إن احتمال نشوء أبسط أشكال الحياة الذاتية التكاثر على هذا النحو (أي من خلال العمليات التطورية) يمكن مقارنتها باحتمال أن ”مرور إعصار في ساحة الخردوات قد ينتج طائرة بوينغ ٧٤٧ من المواد الموجودة في تلك الساحة.“8 (انظر أيضاً Q&A: Probability).

بعض الإعتراضات

ماذا عن الإنتقاء الطبيعي؟

لئلا يُعتقد أن مفهوم الداروينية للإنتقاء الطبيعي يمكن أن يزيد من احتمالية نشوء الحياة [بشكل ذاتي] (أي أنَّه مع مرور الوقت، فإن الطفرات الوراثية قد تُسهم في رفع القدرة على البقاء لدى الفئة الأسمى [الأكثر تطوراً] بين أفراد الصنف)، يجب أن نُدرك بأن الإنتقاء الطبيعي يمكن أن يكون فاعلاً فقط في حالة كائن حيّ قادر على انتاج نسل (سُلالة). وبحكم التعريف ذاته [للإنتقاء الطبيعي] فإنه من غير الممكن أن يكون فاعلاً في حالة المواد الكيميائية غير الحيَّة، وذلك ما أشار إليه الرائد في مجال التطوّر دوبزانسكي.8

للإلتفاف على هذه الصعوبات التي لا يمكن تجاوزها، يلجأ بعض أنصار التطور إلى اعتماد فرضية الكون الأزليّ، لأنه إذا كان الوقت غير محدود [أزليّ]، حِينَئِذٍ يجادلون بأنّه، من الناحية النظرية أيَّ حدثٍ هو مؤكَّد الوقوع.

الكون الأزليّ

إن فكرة الكون الأزلي غير قابلة للإثبات، إذ أنَّ الكون يقترب ببطء إلى ”الموت الحراري“ وذلك وفقاً للقانون الثاني للديناميك الحراري [ثيرموديناميك]. والموت الحراري سيقع عندما تتحول كل الطاقة الموجودة في الكون إلى طاقة حرارية عشوائية، مع الحركات العشوائية للجزيئات ودرجة الحرارة الموحّدَة المنخفضة. [بما معناه: إن الطاقة التي تفقد في حركة الجزئيات ستتحول إلى طاقة حرارية، التي بدورها تتعادل في درجة منخفضة موحّدة في الكون كلّه]. فإذا كان الكون أبدياً [كما يدّعون]، لكان وصلَ إلى هذه الحالة [من الموت الحراري] ”منذ زمن بعيد“. وحقيقة أن الكون لم يَمُت بعد هو دليل واضح على أنَّه ليس قديماً إلى اللانهاية [أزليّ]. للمزيد من المعلومات، انظر المقالة: من خَلَقَ الله؟ (?Who created God)

”في مكانٍ ما، في وقتٍ ما“

للتغلّب على هذه المشكلة، فإن مؤيّدي جدلية هُكسلي المُعاصرين مستعدين للحديث عن الأكوان التي سَبَقَت كوننا الحالي، والفضاءات الأخرى ’الموازية‘[البعيدة] لفضائنا. ومن بعد ذلك يُجادلون بأنه ليس من المهم مقدار صِغَر احتمالية وقوع حدث ما، فإنه سَيحدُث مرةً واحدة (بشكل أكيد) ”في مكانٍ ما، في وقتٍ ما“، طالما أن الإحتمالية ليست في الواقع تساوي الصفر (مستحيلة). علاوة على ذلك، يزعمون بأن السبب وراء كوننا نرصد تحقيق الأحداث المستبعدة يرجع إلى أنه لا يمكن ملاحظتها إلا من قِبَل الكائنات العاقلة الناتجة عنها. ونجد البروفيسور أ.م. هاسُوفِر (خبير علم الإحصاء، جامعة نيو ساوي ويلز) قد أشار في اتصال خاصّ،9 إلى وجود ضعف علمي قاتل في مثل هذا المنطق، حيث أن مثل هذا النموذج يفشل في معيار كارل بوبر الأساسي للقبول العلمي، وأنه قابل للدحض.

يكتب البروفيسور هاسُوفِر:

“لقد تمَّ التعامل مع المشكلة [قابلية الدحض للتصريح الإحتمالي] في كتاب صدر مؤخراً للكاتب ج. ماثرون بعنوان التقدير والإختيار: مقالة عن الإحتمالية العملية (Springer-Verlaine, 1989). ويقترح أن يُنظر إلى النموذج الإحتمالي على أنه قابل للدحض [الرفض] إذا كانت بعض نتائجه ذات احتمالية معدومة [صفر] (أو أنها منخفضة جداً من الناحية العملية). فإن تم رصد إحدى هذه النتائج، يتم رفض النموذج.

“إن الضعف القاتل في جدلية القِرَدَة [المطروحة]، التي تحسب احتمالات الأحداث ”في مكانٍ ما، في وقت ما“، هو أن جميع الأحداث، وبغضّ النظر عن ضعف إحتماليتها، لها احتمال واحد طالما أنها معقولة منطقياً، وبالتالي فإن النموذج المطروح لا يُمكن دَحضُه. إن القبول بصلاحية جدلية هِكسلي يضع نظرية الإحتمالات برمّتها خارج نطاق العلوم القابلة للتحقُّق [الإثبات]. وبشكل أخصّ، [قبول جدلية هِكسلي] يُبْطِل كامل نظرية الكمّ والميكانيك الإحصائي، بما في ذلك الديناميك الحراري [الثرموديناميك]، وبالتالي يُدَمِّر أُسُس جميع العلوم المعاصرة. على سبيل المثال، كما أشار برتراند راسِل في إحدى المرَّات، إن قُمنا بوضع غلّاية على النار وتجمّدت المياه التي فيها، فوفقاً لهُكسلي، سيكون جِدالنا على أن حدثاً مستبعداً جداً للميكانيك الإحصائي قد وَقَعَ، كما في حالة ”في مكانٍ ما، في وقتٍ ما“، عوضاً عن أن نحاول معرفة الخطأ في التجربة!

عُقب أخيل في قابلية انعكاس النشوء الحيوي العفوي عن طريق المصادفة ١

هنالك جانب آخر يجب النظر فيه ـ وهو عيب قاتل آخر في تفسير هُكسلي وأتباعه المعاصرين ـ عندما يتم تطبيقه على فكرة النشوء الحيوي العفوي عن طريق المصادفة أو تشكُّل الخلايا الحيّة من مزيج من الجزئيات. دعونا ننظر في الحالة التي يكون فيها الوقت غير محدود، والإحتمال يساوي واحد. علماً أننا قد رأينا أن أنصار نظرية التطور لا يمتلكون وقتاً غير محدود، لكن سنفترض أنهم فعلوا، فهل يمكن أن تصمد جدلية هُكسلي؟ وتحديداً، هل يمكن لمجموعات الجزئيات أن تنتج حياة (أو حتى الأسقف صموئيل ويلبِرفورس)، إن لم يكن هنالك قيود على الزمن؟

إن فكرة نشوء الحياة بشكل عفوي [ذاتي] من [أشياء] غير حيّة تتضمن تشكُّل بروتينات10 من الببتيدات [ وهي سلسلة أحماض أمينية] التي تشكّلت بدورها من الأحماض الأمينيّة، (التي تشكّلت أيضاً من الغازات في الغلاف الجوي المختزل [حيث يفترض تواجد كمية أقل من الأوكسجين ونسبة عالية من الغازات الأخرى كالهيدروجين والنيتروجين]).11 إلا أن التفاعلات الكيميائية الحيوية الداخلة في تكوين بروتينات من الببتيدات والببتيدات من الأحماض الأمينية هي تفاعلات قابلة للانعكاس ـ أي أنها تعمل بالاتجاه الآخر أيضاً.12 والجدول المُقَدَّم أدناه يمثل أبسط ارتباط [رد فعل] جزيئين من الأحماض الأمينية لتشكيل ببتيد ثنائي [مكوَّن فقط من اثنين من الأحماض الأمينية] وإطلاق جزيء الماء [في الأثناء] (يشير الرمز R في الجدول إلى أي بروتين من مجموعة البروتينات الحيوية العشرين. المجموعات العشرين هي المسؤولة عن التنوع الكبير في البروتينات، والتسلسلات الدقيقة هي متخصصة جداً وغير مُحتملة)

NH2–CHR–COOH

+

NH2–CHR′–COOH

NH2–CHR–CO–NH–CHR′–COOH

+

H2O

تفاعل تكاثفي

حمض أميني ١

+

حمض أميني ٢

يتحدان معاً لإعطاء

ببتيد ثنائي

+

ماء

(عملية قابلة للإنعكاس، فالببتيد يتفكك في الماء)

ويستمر هذا التفاعل التكاثفي في ظل الظروف المناسبة، حيث يتفاعل جزيء الببتيد الثنائي من حمض أميني ثالث ويشكل الببتيد الثلاثي مُطلقاً جزيء ماءٍ آخر، وهلم جرا. وفي بعض الأحيان تترابط مئات أو آلاف الأحماض الأمينية مطلقةً عدداً موافقاً من جزيئات الماء. حيث أن ارتباط (ن) حمض أميني سيطلق (ن-١) جزيء ماء.

هذا يعني أن رد الفعل على التفاعل التكثيفي، مثل تشكل الببتيدات من الأحماض الأمينية، سيثبَّط بفعل الماء الزائد [الناتج عن التفاعل]، وسيكون رد الفعل العكسي هو المرجح [تفكك الببتيدات بالماء]. وعلَّق البروفيسور أ.ي. وِيلدِر-سميث على هذه الحقيقة، فكتب:

”إن نتائج هذه الحقيقة العلمية المعروفة في الكيمياء العضوية مهمة: فتشكل الأحماض الأمنية سيكون بكميات قليلة و[لبُرهة فقط]، حيث أنها إن تشكلت بالمطلق في المحيط البدائي مطلقةً المياه الزائدة، ذلك لتشكيل الببتيدات المعقَّدة [متعددة الأحماض الأمينية]. فإن هذه الببتيدات المعقدة ستتفكك بالمياه الزائدة لتعود إلى مكوناتها الأولية (أي الأحماض الأمينيّة). وبالتالي فإن المحيط هو المكان الأخير على هذا الكوكب أو أي كوكب آخر حيث يمكن أو يتم تشكل البروتينات الحيوية بشكل عفوي من خلال ترابط الأحماض الأمينية. بالرغم من ذلك، فإن كلّ الكتب المدرسية لعلم الأحياء، تقريباً، تُعلِّم هذا الهراء لدعم نظرية التطوّر والنشوء العفوي للحياة. إن عدم الأخذ بالحقائق التي ذُكرت أعلاه، يتطلَّب جهلاً كبيراً [عدم إلمام] بالكيمياء الحيوية وخاصة عند تقديم افتراضات للنشوء العفوي للحياة [التولّد الذاتي للحياة]…“13 (لقد تمَّ التشديد على هذه النقطة في المَرجع.) [انظر أيضاً Origin of life: the polymerization problem.]

في حال النشوء العفوي للحياة، تكون هذه التفاعلات العكسية مترافقة ومتوازنة مع بعضها البعض، حيث لا توجد آلية خلوية لإزالة نواتج التفاعل بشكل انتقائي. ففي الجسم، تحدث تفاعلات عضوية مثل تركيب البروتين وأكسدة الدهون من خلال تدخّل أنزيمات معيّنة (تعمل كنوع من ”الآلية الكيميائية“)14 تعمل بشكل محدَّد في كل خطوة من خطوات سلسلة التفاعل. إلا أن الأنزيمات هي بروتينات، ولا يمكن للمرء أن يدعي تركيب [نشوء] منتج إذا كانت بداية التفاعل هي مع المنتج ذاته الذي يريد أن يحصل عليه.

[لا يمكن الإدعاء بأن الأنزيمات تَدَخَّلت في التَشَكُّل العفوي للبروتينات إذ أن الأنزيمات إنما هي بروتينات أيضاً].

لقد كان الغرض من جدلية الآلات الكاتبة لهُكسلي هو إظهار التالي، إن وقوع أي حادثة هو أمر أكيد، في حال أُعطينا الزمن الكافي. ولذلك، للتوفيق بين هذه الجدلية وفكرة تشكل البروتينات بشكل عفوي (ذاتي) من خلال اندماج الأحماض الأمنية، يتوجَّب أن تكون الألات الكاتبة المستخدمة في جدلية هُكسلي قابلة للعمل بشكل عكسي!

أما الآلات الكاتبة العاديّة، فإن أي كلمات يطبعها القرد ستبقى على الورقة ولن يتم تعديلها إلى تركيبات أكثر وضوحاً، كما أنها لن تتفكك إلى الأحرف المكوّنة لها. وهذا يعني أنّ أي كلمة تظهر على الورقة ليس لها دالّة سابقة لترجع إليها أو دالّة لاحقة لتتطور إليها. [جامدة وغير قابلة للتغيُّر].

بالتالي، في الآلة الكاتبة القابلة للعمل بشكل عكسي، عندما نضغط على المفتاح ’A‘ سيظهر هذا الحرف على الورقة؛ إلا أنه عند إزالة الضغط عن المفتاح، فإن الحرف المطبوع سيُمحى دون ترك أي أثر على الورقة، فنستنتج بأن نتائج استعمال هذه الآلة الكاتبة ستُمحى بذات السرعة والفاعلية التي كتبت بها. كل هذا يعني أن ما ستنتجه القردة الأبدية في جدلية هُكسلي سيكون بذات المقدار سواء عملت لثانية واحدة أو لمليار عام.

بالمحصّلة، لا يهمّ كم هو عدد القردة التي كانت تطبع (أو الجزئيات الماديّة التي تَتَّحد)، أو كم من المرّات (مليار) في الثانية قد يحدث هذا. فإن النتيجة النهائية ستكون بشكل دائم مساوية للصفر، سواء كان ذلك قردة تطبع على الآلات الكاتبة [المذكورة] أو الأحماض الأمنية التي تدمج مع بعضها البعض في تفاعلات متعاكسة.

بطريقة أخرى يمكن أن نقول أن ”زيادة الفترات الزمنية في الأنظمة الحيوية ستؤدي إلى زيادة احتمال التوازن، وليس ظهور منتجات من تفاعلات غير مرجّحة“.16،15

الخلاصة

إن مبدأ ”في مكانٍ ما، في زمانٍ ما“ غير صالح للتطبيق، إذ أن احتمالية تشكل منتج محدّد من خلال تفاعلات متعاكسة بتوازن هو صفر.

إن النظرية التي تفيد بأن الصيغ [أو التركيبات] العشوائية للمواد [التي تدخل في تكوين الحياة] يُمكن أن تُنتج أسقف أكسفورد، أو خلية حيَّة، أو حتى مجرد جزيء بروتين وظيفي واحد، سواء كانت مقيدة بالوقت أو كانت في الأبدية، فاشلة بجميع المقاييس.

إن الحياة تعتمد على الكثير من الآليات، والقوانين والبرامج، التي ليست ضمن خصائص المواد الأساسية [التي تُبنى منها] (حيث أن المعلومات التي تبنى عليها تم تمريرها أثناء التكاثر). ولا يوجد أبداً أي معاينة لنشوء حوامل معلومات كهذه بشكل عفوي. فالاستنتاج الواضح من العلم، فضلاُ عن الخلاصة الواضحة [ما قدمه] من الكتاب المقدس، هو أنَّ الخلق الأصلي للأشياء الحيّة قد نتج مما يخالف الصدفة [العشوائية]، أي، تدخَّل ذكاء خارجي على المواد من خلال مصمم أو خالق أصليّ.

إضافة: هل قال ويلبرفورس بالفعل هذا؟

غالباً ما يكرر الكُتَّاب الذين يتناولون المناظرة الشهيرة بين هُكسلي وويلبرفورس روايةً بأن الأسقف، وفي نهاية خطابه، توجَّه إلى هُكسلي وسأل عما أذا كان جدّه أوجدّته الذان يُنسب إليهما ينحدران من القِردة؟ ومن المفترض بأن هُكسلي قد أجاب بكونه لا يخجل بأن يكون قردٌ بين سلالة أسلافه، لكنه يخجل بأن يكون منحدراً من رجلٍ استخدمَ قدراته في ميدان العلوم دون أن يُحصِّل معرفة حقيقيّة، إنما استخدم لغة خطابية جوفاء في النداء إلى التعصُّب الدينيّ.

يلخص ج.ر. لوكاس الأدلة والنقائص على هذه الرواية في مقالة طويلة في المجلة التاريخية (17Historical Journal) وأخرى ملخَّصة في ’طبيعة‘ ’18Nature‘. ويشير إلى أن عدد الحضور كان ”أكبر من مجلس العموم [البريطاني]“، مما يعني أنه، في ظل الظروف الصاخبة (والمقاربة لساحة المصارعة) لتلك المناظرة، لم يكن جميع الحاضرين قد سمعوا كلَّ ما قيل بشكل صحيح.

وفقاً لما ورد في المناظرة، يقول لوكاس عن علوم ويلبرفورس: كانت هذه حججاً علمية حقيقيّة، تليق بنائب رئيس الجمعية البريطانية. واعترف داروين بمقدرات المُناظرَين، فأسهب قائلاً:

”من المشكوك فيه أن ويلبرفورس سأل هُكسلي عما إذا كان منحدراً من قرد. إنها قصة جيدة، لكن ويلبرفورس استخدم ضمير المتكلم بصيغة الجمع [نحن] في مراجعته [التي قدمها بخصوص كتاب داروين، وتم إثبات استخدام ضمير المتكلم من خلال السيرة الذاتية لويلبرفورس – المعترف بها مؤخراً-وعلى الشخص أن يقرر]“. قد يكون سؤال ويلبرفورس إلى هُكسلي باستخدام ضمير المخاطب هو أين رسم الخط الفاصل بين البشر كسلالة منحدرة والأجداد الشبيهن بالقرود، إذا كان النسل هو من نفس نوع الوالدين، كما هو معترف به عموماً.19 إن هُكسلي، على أية حال، كان مستعداً للإجابة للسؤال الذي لم يُطرح عليه قبل ثلاثة أشهرـ في عدد نيسان من مجلة وستمنستر ريڤيو، حيث أنه كان قد اتهم منتقدي الداروينية لأنهم جعلوه ليس أفضل من قرد، وبما أن ويلبرفورس ينتقده الآن لكونه داروينياً، فذلك يشابه مناداته بالقرد أيضاً.

وبناء على ذلك، على ما يبدو أن ويلبرفورس لم يحاول السخرية من هُكسلي، إنما العكس هو ما حدث. فإن كان الأمر كذلك، ستتكون لدينا صورة مختلفة عما حدث بالفعل في تلك المناظرة الشهيرة.

مراجع

  1. Charles Darwin, Life and Letters, Vol. 2,ed. Francis Darwin (New York: Appleton and co., 1911), pp 117–118. عودة إلى النص.
  2. Huxley used the term ‘apes’ but modern-day writers on this theme tend to prefer ‘monkeys’, e.g. David Osselton, ‘Making a Monkey of Shakespeare’, New Scientist, November 1, 1984, p. 39. عودة إلى النص.
  3. The formula used here, 1/pr, is not strictly accurate, but is used for the sake of simplicity in the comparison of time. According to W. Feller, An Introduction to Probability Theory and Its Application (3rd. Edition, 1957), Vol. 1, pp. 332–324. ‘Application to the theory of success runs’, the formula for the mean time u measured in number of symbols is given by u = 1-pr/qpr or u - 1-pr/qpr where q = 1-p. In our case p = 1/50, and the whole Psalm r = 603. However, for practical purposes it hardly differs. عودة إلى النص.
  4. If we take the solar year of 365 days, 5 hours, 48 minutes, 46 seconds, or 31,556,926 seconds (from which the concept of leap year is derived), the answer would be 9.546 x 101016 years, (using 1/pr for ease of comparison). عودة إلى النص.
  5. Ambrose, E. The Nature and Origin of the Biological World, 1982, p. 135, (italics added) as quoted in Bird, W.R., The Origin of Species Revisited, Philosophical Library, New York, 1989, Vol. 1, pp. 302–3. عودة إلى النص.
  6. Morowitz, Harold J., Energy Flow in Biology, Academic Press, New York, 1968, p.67. عودة إلى النص.
  7. Hoyle, Fred, ‘The Big Bang in Astronomy’, New Scientist 92(1280):527, 19 Nov 1981. عودة إلى النص.
  8. See Theodosius Dobzhansky, comments on ‘Synthesis of Nucleosides and Polynucleotides with Metaphosphate Esters’, in The Origins of Prebiological Systems 299:310 (S. Fox ed. 1965), cited in Bird, The Origin of Species Revisited, Vol. 1, p. 359. Bird summarises the case against natural selection working on non-living chemicals on pages 359–362. For a recent article advancing the evolutionist’s case, see ‘Survival of the fittest molecules’, New Scientist, 3 October, 1992, pp. 37–40. And not only can natural selection not explain the origin of life, there are other limitations, as shown in Weasel, a flexible program for investigating deterministic computer ‘demonstrations’ of evolution. عودة إلى النص.
  9. I wish to thank Professor A.M. Hasofer, of the school of Mathematics, University of New South Wales, for his valued advice on this part of the article. عودة إلى النص.
  10. There is, of course, a vast difference between a test-tube of protein and a test-tube of living cells. Some of the characteristics of life are: the ability to get energy and materials from the environment, the ability to self-repair, and the ability to reproduce. عودة إلى النص.
  11. Experiments like the Miller–Urey synthesis are irrelevant to the point of this article—they represent the formation of some jumbled ‘alphabet letters’ if you like, not the arrangement of these into codes and sequences. There is nothing inherently improbable about their formation under such conditions, as the ‘coding’ to produce them is already there. However, they lead to a dead end in origin-of-life experiments because the mixture formed is a tarry goo of all sorts of other molecules as well, which acts against further synthesis. In addition, a racemic mixture of left-handed and right-handed forms results, whereas living things use one ‘hand’ exclusively. عودة إلى النص.
  12. For a full treatment of this aspect see A.E. Wilder-Smith, The Natural Sciences Know Nothing of Evolution (San Diego, CA: Master Books, 1981), Chapter 2, Biogenesis by Chance? pp. 11–16. عودة إلى النص.
  13. Ibid., p. 16. عودة إلى النص.
  14. Cell machinery ensures that products removed from the reaction before they can revert to reactants, which results in irreversibility. The ‘primordial soup’, from which life is alleged to have evolved, would have no such elaborate machinery, so the reaction would tend towards equilibrium, which is away from life. عودة إلى النص.
  15. Harold F. Blum, Time’s Arrow and Evolution, 2nd ed. (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1955), quoted in A.E. Wilder-Smith, Man’s Origin, Man’s Destiny (Bethany Fellowship Inc., 1975), p. 65. عودة إلى النص.
  16. It is acknowledged that not all the amino acids positions in a particular functional protein are crucial—i.e. to continue the analogy, there is more than one way of correctly writing the 23rd Psalm. However, this merely reduces the ‘odds against’ from something approaching infinity to a little less than infinity. For a full discussion of the calculations involved see the section ‘Criticisms of Probability Calculations’, in Bird, The Origin of Species Revisited, Vol. 1, pp. 306–308. عودة إلى النص.
  17. J.R. Lucas, ‘Wilberforce and Huxley: A Legendary Encounter’, The Historical Journal 22:313–330, 1979. عودة إلى النص.
  18. J.R. Lucas, ‘Wilberforce no ape’, Nature 287:480, 9 October 1980. عودة إلى النص.
  19. I. Huxley, Life and Letters of Thomas Henry Huxley, Vol. i, p. 185, quoting Vernon Harcourt. عودة إلى النص.